X

القوة الثقافية الناعمة : كيف أثرت الثقافة الكورية في المجتمع العربي

الثقافة الكورية

عندما احتشد ثمانون ألف شخص في استاد الملك فهد لحضور حفلة فرقة “بي تي إس” الكورية، لم يكتف الحضور بالتصفيق والترحيب فحسب، بل ردد الكثيرون منهم عبارات كورية وتحدث البعض الآخر بطلاقة اللغة الكورية. وليس هذا فحسب، فقد حضرت أعداد غفيرة من الحفلات التي أحيتها فرق كورية في جدة والعلا، وانبهرت المدرجات بأدائهم المميز وانتشرت الفرحة في كل مكان. وهذا ما دفعني لكتابة هذا المقال.

في التسعينيات، قام جوزيف ناي، أستاذ السياسة في جامعة هارفارد، بابتكار مصطلح القوة الناعمة. وبعد عقد من الزمن، انتشر المصطلح في أروقة البيت الأبيض وبدأ يتداول بين وزير الدفاع الأميركي وأعضاء الحزب الشيوعي الصيني ورئيس الوزراء الياباني. تسبب هذا الابتكار في ثورة في مجال العلاقات العامة، وأدى إلى إنشاء مؤشرات وتأسيس مراكز دراسات لفهم آليات القوة الناعمة. ويُعرّف ناي القوة الناعمة بأنها القدرة على جذب الأشخاص وتحفيزهم على فعل شيء دون استخدام العنف أو الإكراه.

أخيرًا، تعتبر المنتجات الثقافية والفنية أحد أهم أساليب صنع القوة الناعمة، حيث تعكس هذه المنتجات الثقافة والقيم والتراث الفني للدولة، وتساهم في بناء الصورة الإيجابية لها في أذهان الناس حول العالم. ويمكن استخدام هذه المنتجات في تبادل الثقافات والتفاهم بين الشعوب والترويج للتعاون الدولي والتفاهم العالمي.

ومن أمثلة المنتجات الثقافية والفنية التي تستخدم كأدوات لصنع القوة الناعمة: الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والموسيقى والرقص والأدب والفنون الجميلة والمسارح والمعارض الفنية والألعاب الإلكترونية. وتستطيع الدول استثمار هذه المنتجات لتعزيز صورتها الإيجابية في العالم، وتحسين علاقاتها الدبلوماسية والتجارية، وزيادة تأثيرها الناعم على الرأي العام العالمي.

توجد مزايا عديدة لاستخدام الأساليب غير التقليدية في الترويج للمنتجات الثقافية. إحدى هذه المزايا هي قدرة هذه الأساليب على الوصول إلى جمهور أوسع وأكثر تنوعًا من النخب، مما يمكّن المنتجات الثقافية من الوصول إلى فئات كبيرة من الجمهور التي قد لا تكون قادرة على الوصول إليها بسهولة عند استخدام الأساليب التقليدية.

علاوة على ذلك، فإن القوة الناعمة للتسويق عبر هذه الأساليب يمكن أن تكون أكثر فعالية في تأثيرها على الجمهور. فعندما يتم تحويل المنتجات الثقافية إلى أنماط جديدة ومبتكرة، يمكن أن يكون لها تأثير أعمق وأكثر ملاءمة لفئات مختلفة من الجمهور.

كما يمكن لهذه الأساليب أن تساعد في تغيير صورة سلبية أو نمطية لمنتجات ثقافية أو حتى لدولة معينة، وتحويلها إلى صورة إيجابية وجذابة للجمهور. ويمكن أن يساعد ذلك في تعزيز الثقافة والتفاهم بين الشعوب وتحسين العلاقات بين الثقافات المختلفة.

علاوة على ذلك، يمكن أن تكون هذه الأساليب سهلة الوصول إليها من دون عوائق وترسبات، وهذا يمكن أن يؤدي إلى زيادة الوعي والاهتمام بالمنتجات الثقافية في فئات واسعة من الجمهور.

لذلك، يمكن أن يكون استخدام الأساليب غير التقليدية للترويج للمنتجات الثقافية قد أدى إلى تحويل صورة اليابان النمطية من سلبية إلى إيجابية. ويمكن أن نرى هذا الأثر أيضًا في زيادة الاهتمام بالثقافة اليابانية وانتشارها في جميع أنحاء العالم. فقد أصبح الأنيمي والمانغا والألعاب جزءًا من ثقافة الشباب في العديد من البلدان، ويتمتع هذا النوع من الترويج بجماهيرية كبيرة وتأثير كبير على المستوى العالمي. وبالتالي، يمكن القول إن الاستخدام المبتكر للأساليب التقليدية في الترويج للمنتجات الثقافية قد أدى إلى تغيير صورة اليابان النمطية بشكل إيجابي وإلى نشر ثقافتها في جميع أنحاء العالم.

بدايات كوريا في الترويج لصناعاتها الفنية

وفعلاً، حققت كوريا الجنوبية نجاحات باهرة في ترويج ثقافتها وجذب اهتمام العالم بها، وذلك بفضل ما يعرف بـ”الموجة الكورية” أو الـ”كيبوب” والتي تتضمن الأغاني والرقصات والموضة والأفلام والمسلسلات الكورية، وقد انتشرت هذه الثقافة بشكل كبير في جميع أنحاء العالم، وخاصةً في آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، ولقد ساعدت هذه الظاهرة في جذب السياح وزيادة الصادرات الثقافية الكورية، مما ساهم في دفع الاقتصاد الكوري إلى مستويات عالية من النمو والازدهار. وبالإضافة إلى ذلك، فقد ساهمت هذه الثقافة في تحويل صورة كوريا من الدولة النامية إلى دولة حديثة ومزدهرة، وذلك بفضل ترويجها للثقافة الكورية الحديثة والمبتكرة والتي تعبر عن مستقبل الدولة. وهذا بدوره أثر إيجاباً على صورة كوريا في العالم وجعلها وجهة مفضلة للسياح والمستثمرين والمبتكرين.

تعتبر الكي-بوب والكي-دراما والأفلام الكورية والطعام والموضة والتكنولوجيا والرياضة وغيرها من المجالات جميعها أدوات قوة ناعمة تستخدمها كوريا لتعزيز نفوذها وثقافتها في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، الكي-بوب يعتبر الآن ظاهرة عالمية وهو يلقى اهتمامًا كبيرًا في العديد من البلدان، ويتميز بأسلوبه الموسيقي والرقصات المتنوعة والفيديوهات الإبداعية، كما أنه يتميز بكونه يعكس ثقافة الشباب الحديثة في كوريا.

ومن جانبها، تمتلك الكي- دراما الكورية شعبية كبيرة في جميع أنحاء العالم، حيث تعرض قصصًا وشخصيات وثقافة الكورية بشكل مباشر وغير مباشر، وتمتلك قدرة على جذب الجمهور بأسلوبها الدرامي المشوق والمؤثر، وهذا يعتبر أيضًا وسيلة قوية لترويج الثقافة الكورية.

وبجانب ذلك، تشتهر كوريا بالأفلام التي تجمع بين الدراما والإثارة والتشويق، وتحظى بشعبية كبيرة في جميع أنحاء العالم، ومن أشهرها فيلم “باراسيت” الذي حصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي في عام ٢٠٢٠.

ويتمتع الطعام الكوري بشعبية متزايدة في العالم، وتشتهر كوريا بالأطباق المتنوعة واللذيذة مثل كيمتشي وبيبيمباب وبانتشانغ، وهذا يعد أيضًا وسيلة فعالة لتعريف العالم بالثقافة الكورية.

وتعتبر التكنولوجيا الكورية والشركات المنتجة لها مثل سامسونج وإل جي وكيا وهيونداي، من أهم مظاهر القوة الناعمة للكوريين على المستوى العالمي، حيث تمتلك هذه الشركات سمعة ممتازة في الأسواق العالمية وتعد من بين أكبر الشركات في العالم. وتتفوق هذه الشركات في مجالات مثل الهواتف الذكية، والأجهزة اللوحية، والتلفزيونات الذكية، والسيارات، والتقنيات الطبية، والتقنيات البيئية، وغيرها، مما يجعلها تساهم في تعزيز الصورة الإيجابية لكوريا وجعلها تتمتع بقوة ناعمة كبيرة على المستوى العالمي.

الكي- بوب

تعد فرقة بي تي إس (BTS) واحدة من أشهر فرق الكي-بوب حول العالم، حيث يحرص جمهورها على متابعة كل جديد لهم سواء من أغاني أو حفلات أو مقابلات، وتعتبر هذه الفرقة رمزًا للثقافة الكورية الشعبية. كما أنها تُعَدُّ رمزًا للشباب الذين يتأثرون بموسيقاهم ورسائلهم الإيجابية، وتحظى بشعبية كبيرة لدى فئة الشباب الذين يرغبون في الاستمتاع بموسيقى ممتعة ومفعمة بالحيوية والنشاط.

الكي- دراما

تُعد الكي-دراما أفلام ومسلسلات تلفزيونية كورية تستهدف المراهقين والشباب، وتتناول مواضيع مثل العلاقات العائلية، والعلاقات الرومانسية، والأموال، وشرائح الحياة الاجتماعية. اتبعت كوريا استراتيجية شراء قنوات في مختلف أنحاء العالم، وبثت هذه الأفلام والمسلسلات بلغات مختلفة لتسهيل انتشارها. ومن بين الأفلام الكورية التي انتشرت مؤخرًا، فيلم “طفيلي” الذي عرض في عام 2019م وحصد جائزتي أوسكار لعام 2020م، وجائزة في مهرجان كان السينمائي، وحقق أعلى إيرادات في تاريخ الأفلام الكورية بما يزيد عن 265 مليون دولار، وبلغت تكلفة إنتاجه 11 مليون دولار. يتناول الفيلم موضوعات العدالة الاجتماعية والكوميديا السوداء ومشاكل الأسر ذات الدخل المنخفض، ويعد فيلمًا مختلفًا ومفاجئًا بفكرته. وبالنسبة للمسلسلات الكورية، فهي تتميز بأنواع مثل التاريخية والرومانسية والأكشن، وتعد أداة فعالة في نشر القوة الناعمة الكورية.

كيف يمكن أن تروي الرواية الصحيحة؟

تمكنت كل من كوريا الجنوبية، واليابان، والصين من تقديم قصصها بأنفسها، دون الحاجة للسماح للغرب بترويج النسخة المغلوطة للتاريخ للعالم. بل إنهم نجحوا في تقديم القصة الصحيحة للغرب أيضًا. ومن جهتنا كشعب سعودي، نحن شعب ذو حضارة عريقة تمتد آلاف السنين قبل الميلاد، ونحن مهد لإحدى الحضارات الرئيسية في تاريخ البشرية وهي الحضارة الإسلامية. وفي الوقت الحاضر، نحن نمتلك أفضل الموارد البشرية، الثقافة والعلم والاحترافية. إذا اقتصرنا على النفط والأموال والتطرف الذي لا يقبل الاختلاف، فإن ذلك يتنافى مع الحقيقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. يجب علينا كشعب أن نُعلم العالم بتراثنا الثقافي الغني والمخزون العلمي الكبير، وتُشجع المنتجات الثقافية السعودية – مثل الأغاني والمحتوى المرئي والمقروء – بشكل واسع في الأسواق الخليجية والعربية. إننا نتفوق على المستوى الإقليمي، وهذه هي الخطوة الأولى قبل الانتشار العالمي، مثلما حدث في كوريا واليابان.

بالفعل، يوجد في المملكة العربية السعودية مخزون ثقافي كبير ومتنوع يمكن أن يعرض للعالم بطريقة مختلفة واستثنائية. يمكن تحقيق هذا الهدف من خلال دفعة مادية ومعنوية، ودعم الهيئات الثقافية، وتطوير صناعة الأفلام والمحتوى في المملكة. ومن خلال الابتكار والتجديد، يمكن تقديم محتوى ثقافي سعودي فريد ومختلف عن المحتوى الذي ينتجه العالم الغربي، مثل الأنيميشن التقليدي والبوب التقليدي. ويمكننا أن نتوقع أن يصل المحتوى الثقافي السعودي إلى المستوى العالمي بمساعدة القيادة الحالية للقطاع الثقافي السعودي بقيادة وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، الذي شهد تطورًا ملحوظًا في هذا القطاع في فترة حكمه.

Related Post